رحمة الله بعباده
عن الإمام الصادق عليه السلام قال
"التوبة حبلُ الله ومددُ عنايته ولا بدَّ للعبد من مداومة التوبة على كلُّ حال، وكلُّ فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السر، وتوبة الأصفياء من النفس، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الخاصّ من الإشتغال بغير ذكر الله، وتوبة العامّ من الذنوب"1
131
تمهيد
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾2.
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾3.
بعد كلّ ما تقدم معنا عن آثار الذنوب وتبعاتها وأخطارها في الدنيا والآخرة، لا بدّ من التعرّف إلى أنّ الله الرحمن الرحيم قد فتح أبواب رحمته لتعود إليه بعد عصيانك وطغيانك وتجاوز الحدّ وهتك الستر، وهذا من فضل الله علينا ورحمته بنا وإلّا لكنّا من الخاسرين:
﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾4.
وأبواب رحمة الله كثيرة ومتعددة وسنشير هنا إلى أهمّها
1- فتح باب التوبة
إنّ باب التوبة والأَوْبَة إلى الله من أهمّ الأبواب، وهو باب مفتوح لمن أراد دخوله، وقد دعانا الله إلى طَرقِه والورود فيه، فقال لنا في محكم كتابه:
﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾5.
133
والتوبة حبل الله الممدود بيننا وبينه، من تمسّك به نجا ومن رغب عنه هلك وهوى.
وقد وعدنا الله بأنّه سيقبل توبتنا إن تبنا وأنبنا إليه ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾6.
وعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "من أُعطي التوبة لم يُحرم القبول...."7.
ومعنى قَبُول التوبة هو أنَّ إلهك الرحيم قد عفا عن إساءتك إليه، واستقبلك مجدّداً في جِوار رحمته ومدّ لك بساط مغفرته، ودعاك إلى مراجعة تقصيرك فيما قصّرت فيه، والاستئناف بأداء حقوقه وفرائضه بإتيان الطاعات وترك المعاصي والموبقات.
ومن ثمار هذه التوبة: أنّك تُصبح محبوباً لله ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ...﴾ 8 ومن أحبّه الله لم يُعذِّبه الله كما ورد في الرواية الشريفة، ووفّاه أجره يوم القيامة، وكان من الآمنين، وأباحه جنّته، وأذاقه بَرْد عفوه وغَفرَ له ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾9.
ومن ثمارها أيضاً: تحصيل المغفرة ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾10.
وإنّ ذلك خيرٌ لنا ﴿فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾11وإنّك بتوبتك سوف تُفرح الله وتُسرّه بعودتك وإنابتك، ففي الرواية عن الإمام الباقرعليه السلام قال: "إنّ الله تعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجلٍ أضلَّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها"12.
134
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الله أفرحُ بتوبة عبده من العقيم الوالد (أي الذي رُزق بولد بعد عقم) ومن الضالّ الواجد (لضالته) ومن الظمآن الوارد (على حياض الماء)"13.
2- ستر الله على المذنب
وهذا الباب أيضاً من أبواب لطف الله ورحمته بعبده قبل التوبة وبعدها؛ إذ إنّ العبد العاصي والآبق يعصي ثمّ يعصي وهكذا، والله يستر عليه فلا يؤاخذه بالكثير من ذنوبه ولا يفضحه كلّما أذنب، لعلّ هذا العبد يستيقظ من غفلته، وهذا من نعم الله علينا كما قال في كتابه الكريم ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾14 ويفسِّرها لنا ابن عباس بقوله "الظاهرة الإسلام والباطنة ستر الذنوب"15.
ويقول الإمام عليه السلام في دعاء يوم الثلاثاء: "وأنت علاّم الغيوب سترت عليَّ عيوبي وأحصيت عليَّ ذنوبي وأكرمتني بمعرفة دينك ولم تهتك عليَّ جميل سترك يا حنّان ولم تفضحني يا منّان"16.
والإنسان بطبعه يسعى حين ارتكاب الذنب والجُرم أن لا يراه أحد من الناس لئلّا يُفتضح بينهم، ولكن هيهات هيهات إن لم يُفتضح في الدنيا لموضع ستر الله عليه، فسوف يُفتضح في الآخرة يوم الفضيحة على رؤوس الأشهاد وأمام الخلق أجمعين وخاصّة أمام معارفه وأقربائه ممّن كان يتظاهر أمامهم بالعفّة والصلاح والمكانة والمنزلة، وها هو إمامنا عليعليه السلام يعلِّمنا ويُرشدنا إلى كيفيّة التكلّم مع الله ومناجاته وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء "إلهي سترت عليَّ ذنوباً في الدنيا وأنا أحوج إلى سترها عليَّ منك في الآخرة، إلهي قد أحسنت إليَّ إذ لم تُظهرها لأحدٍ من عبادك
135
الصالحين فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد"17.
وهذا الستر للذنب إنّما هو قبل التوبة، وأمّا ستر الله على عبده بعد التوبة فهو الأفضل والأجمل والأكمل، لأنّه لن يكون عليه شيء يشهد ضدَّه يوم القيامة، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال
"إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقُلت وكيف يستر عليه قال: يُنسي ملكيه ممّا كُتب عليه من الذنوب ويُوصي إلى جوارحه أن اكتُمي عليه ذنوبه، ويُوصي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيءٍ من الذنوب"18.
3 - فتح باب المغفرة
يقول الله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾19.
وقد أمرنا الله تعالى تلطّفاً بنا ورحمة لنا أن نستغفره؛ بمعنى أن نستنزل المغفرة ونطلبها منه فقال في محكم كتابه:﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾20.
27 апр 2022