في 21 نوفمبر تم قتل (بيار الجميل) وزير الصناعة اللبناني، ضربا بالرصاص في سيارته، وهو ليس الأول ولن يكون الأخير في ساحة لبنان، ومن قبل قدم المجرمون قربانا جديدا في أعياد الميلاد في 12 ديسمبر 2005، حيث تم نسف (جبران التويني) رئيس تحرير جريدة «النهار» اللبنانية على الطريقة التقليدية: سيارة مفخخة، وأشلاء متناثرة.
وفي كلا المشهدين تطالعنا نفس الصورة: نساء باكيات نادبات ووجوه مكفهرة حزينة، واتهامات متبادلة، البريء الوحيد فيها الشيطان، وشياطين الإنس المجرمون عددهم كرمل عالج.
والقتل هو طريقة تصفية الحساب بين السياسيين، ومن يدفع ثمنه المفكرون والشخصيات المهمة.
ومن قبل طلب بنو إسرائيل قربانا تأكله النار، فقال القرآن: قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين.
وكل من (بيار الجميل) و(جبران تويني) كان قربانا للعنف على أعياد ميلاد المسيح عليه السلام. فلحقا بالمسيح، والمسيح من قبل هم به قومه بالقتل فأنجاه الله. وليست النجاة شرطا في كل مرة، فكثير من الأنبياء قتلوا.
وفي الإنجيل فإن شمس الله تشرق على الأبرار والأشرار....
وأمام ظاهرة القتل نرى تناقضا يكاد لا يفهم، فالموت والقتل لا يقوم تماما على طريقة عادلة، ومن يُقتل، هم الأنبياء والمصلحون والفلاسفة والمفكرون ورؤساء تحرير جرائد وكتاب أحرار، كما حصل مع بيار الجميل والتويني وفرج فودة ومحمود طه ومصطفى العقاد، ومن قبل سمير قصير وباقر الصدر ورفيق الحريري.. وآخرون من شاكلتهم أزواج، ذكورا وإناثا..
قتل كل أولئك مع أنهم دعوا للسلام بين الأنام، ومع ذلك قتلوا، فلا يشترط النجاة من القتل من أعلن أنه لن يمد يده بالقتل ولو قتل.
والأنبياء جعل الله لهم من المجرمين عدوا وكفى بربك هاديا ونصيرا.
وفي قصة ولدي آدم، أعلن هابيل أنه لن يقتل ولم يمد يده بالقتل، ولو تعرض للقتل، فطوعت لقابيل نفسه فقتله فأصبح من الخاسرين.
هكذا قتل غاندي برصاصة تافهة من هندوسي متعصب، كما يصعق تيار كهربي إنسانا من لحم، أو يقتل فيروس تافه بدنا في أكمل توازنه.
هكذا قتل غاندي غيلة كما يهلك أي جرثوم أعظم روح..
وهكذا قتل مارتن لوثر كينج الأسود، وهو يقول في ندائه المشهور (لدي حلم I have a Dream) اريد ان أرى يوماً الأطفال السود والبيض يدا بيد يغنون قصيدة مشتركة ويعيشون حياة متناغمة يسودها الحب والسلام.
وهكذا اعتقل المصلح الديني (جان هوس) التشيكي، في الثالث من نوفمبر 1411، وأُخضع لحفلة تحقيق جهنمية، بسبب كتاباته، وأُدين في 6 يوليو 1415، بسبب ثلاثين جملة اعتبرت (هرطقة) وحكم بأن يحرق (حياً) ونفذ الحكم في نفس يوم إصداره.
وفي 27 أكتوبر 1553، أدين الطبيب الإسباني (ميشيل سرفيتوس) مكتشف الدورة الدموية الصغرى، بسبب قوله بالتوحيد وتعميد البالغين، ولم تشفع له دموعه وتوسلاته في تحويل الحكم إلى الشنق أو قطع الرأس فأُحرق حياً.
وفي 21 آذار 1556، كان المصلح الديني البريطاني (توماس كرامر) يشغل منصب (أسقف كانتربري)، أول مترجم للإنجيل إلى اللغة الإنكليزية يضبط على آرائه الخطيرة في الإصلاح الفكري ويساق إلى المحرقة ليشوى على نار هادئة، وجمع غفير يتأمله وهو يزعق.
وفي 19 فبراير عام 1600، مع فجر القرن السابع عشر كان المصلح الديني (جيوردانو برونو) الإيطالي على موعد مع نفس المصير فأحرق على ألسنة اللهب المتصاعدة حياً، وكان عمره 52 سنة، بعد اعتقال مضن وإذلال دام ثماني سنوات في الفاتيكان والخضوع لكل أنواع التحقيق والتعذيب. بسبب رأيه الكوسمولوجي عن كون بدون حدود، ومجرات لانهائية تتزاحم في الملأ العلوي.
وفي عام 399 قبل الميلاد تم تنفيذ حكم الإعدام في أثينا الديموقراطية بشيخ بلغ السبعين عاماً بتجرع قدح سم الشوكران. تم اتخاذ الحكم أمام هيئة محلفين مكونة من 501 عضو، وكانت التهمة التي أدين فيها بغالبية 36 صوتاً ليس لذنب ارتكبه أو جريمة اقترفها؛ بل لأنه يفسد عقول الشباب بالآراء التي ينشرها. كان المدان الفيلسوف اليوناني (سقراط 470-399) أعظم فلتة عقلية أنتجها مجتمع أثينا؛ الذي تجرع السم ورفض محاولة الهرب.
وطار رأس أبو الكيمياء الحديثة (انطوان لافوازييه) بنصل المقصلة التي اخترعها الدكتور جيلوتين أيام الثورة الفرنسية تخفيفاً لعملية الذبح.
وسلم الروح (سبارتاكوس) صلباً على عمود، ثائراً على روما عام سبعين قبل الميلاد.
وأنهى الإمام ابن تيمية أيامه الأخيرة في سجن القلعة في دمشق، وهو يكتب بالفحم على الجدران، مثل المجانين بعد أن حرم من القلم والقرطاس.
وقطع رأس النبي يحيى في جو عربدة ارضاء للراقصة سالومي.
ولا يشذ تاريخنا عن هذه القاعدة، فابن حنبل ضرب إلى حافة الموت.
وأبو حنيفة مات مسموماً.
وابن جرير الطبري المؤرخ دفن بالليل سراً عام 310 هـ بسبب رميه بالزندقة، وهو الذي وصف الفقيه (الاسفراييني) كتابه (التفسيرالكامل) بأنه لو سافر رجل إلى الصين من أجله لما كان كثيراً.
ويسأل الحجاج عالماً ما اسمك؟ فيجيب: سعيد بن جبير فيذبحه قائلا: بل أنت شقي بن كسير؟ في تصفية أموية لكل المادة الرمادية في المجتمع.
ووصف ابن أبي أصيبعة (شهاب الدين السهروردي) بأنه (أوحد في العلوم الحكمية بارع في الأصول الفقهية مفرط الذكاء جيد الفطرة)، ولكن خصومه شنعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد، بعد أن ناظرهم في حلب فأفحمهم فعملوا محضراً بكفره ورفعوه إلى السلطان (صلاح الدين الأيوبي) وطلبوا منه استئصال الشر بقتله، حتى لا ينفث إلحاده بكل بلد يحل فيه، فكان لهم ما أرادوا فقتل سنة 587 هـ عن 36 عاماً وأخذ لقب (الشاب المقتول) في التاريخ.
مغزى هذه القصص، التي ترتجف منها المفاصل أن المجتمع لا يتقدم إلا بالفكر على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع، وأن الجديد يعارض دوماً وأن النافع يثبت وأن التاريخ تقدمي.
ومقتل بيار الجميل هو حلقة في هذا السلسلة، فلعله أن يتحول إلى نجم للهداية في ظلمات العالم العربي.
وفي الإنجيل لن تخرج النبتة إلا بعد دفن البذرة في الأرض وكذلك موت المفكرين العظام..
إ
20 авг 2024