كيف أسس (السفير الأول) عثمان بن سعيد العمري أسطورة (الامام الغائب)؟.. ولماذا صدقه محمد الصدر؟
تحدثنا في حلقة سابقة عن قصة رواها وفد قم الذي جاء الى (سر من رأى) يوم وفاة الامام الحسن العسكري، حاملا بعض الأموال من شيعة قم، ولقائه بالامام الغائب وهو طفل صغير، وتعيينه لعثمان بن سعيد العمري وكيلا له في بغداد، من أجل استلام الأموال في المستقبل. وهي قصة روجها شيخ الشيعة في قم أحمد بن إسحاق، الذي تحالف مع العمري في الانقلاب على الامام جعفر الزكي بن علي الهادي.
وقد اعتمد العمري أيضا على روايات أخرى تتحدث عن علاقته الوثيقة بالامامين الهادي والعسكري، ووكالته السابقة عنهما، واستصحاب تلك العلاقة والوكالة الى الامام الجديد المفترض (الطفل الغائب) الذي ادعى وجوده ورؤيته واللقاء به في عهد أبيه العسكري، وفيما بعد.
وقد ردد محمد الصدر تلك الروايات، التي نقلها مشايخ الطائفة الاثني عشرية في القرن الرابع والخامس، الذين آمنوا بوجود (الامام الغائب) بناء على دعوى العمري وابنه محمد، ثم خليفته النوبختي والصيمري. وبالرغم من عدم اعتراف بقية الشيعة الذين تفرقوا بعد وفاة العسكري الى اربع عشرة فرقة، ووقعوا في حيرة طويلة وأزمة عميقة نتيجة اعلان العسكري بعدم وجود ولد له، وعدم تحدثه عن مصير الامامة، وتفتيشهم وعدم عثورهم على أثر لولد مزعوم، مما يعني تكذيبهم للعمري، فان محمد الصدر يقلد أولئك الذين صدقوه وبنوا على دعواه، فيصف العمري بالشيخ الموثوق. ويقول: يرد اسمه أول ما يرد كوكيل خاص للإمام الهادي (ع) . وكان يستوثقه ويمدحه بمثل قوله: "هذا أبو عمر الثقة الأمين، ما قاله لكم فعني يقول ، وما أداه إليكم فعني يؤديه". وحين يلقى الإمام الهادي ربه عام 254 ، يصبح أبو عمرو وكيلاً خاصاً موثوقاً للإمام العسكري (ع) . وكان الامام العسكري يقول: "هذا ابو عمرو الثقة الامين . ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنى يقوله ، ما أدى إليكم فعني يؤدي" وانه قال امام وفد من اليمن: "امض يا عثمان ، فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله". الصدر، الموسوعة المهدوية، ج1 ص 397
ويبني الصدر إيمانه بوكالة العمري على رواية أخرى ينقلها الشيخ الطوسي ، والتي يزعم فيها أن الإمام العسكري (ع) قد عرض، قبيل وفاته، ولده (المهدي) على أربعين رجلا من خواص الشيعة، ونص فيه على امامته وغيبته، كما نص على وكالة عثمان بن سعيد العمري عن (المهدي) وسفارته له قائلاً: "فاقبلوا من عثمان ما يقوله ، وانتهوا إلى أمره ، أو اقبلوا قوله فهو خليفة امامكم والأمر إليه". ص 399
وهذه الرواية يرويها الطوسي عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري البزاز، عن جماعة من الشيعة منهم علي بن بلال، وأحمد بن هلال، ومحمد بن معاوية بن حكيم، والحسن بن أيوب بن نوح ، في خبر طويل مشهور قالوا جميعا: اجتمعنا إلى أبي محمد الحسن بن علي (ع) نسأله عن الحجة من بعده، وفي مجلسه (ع) أربعون رجلا، فقام إليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمري فقال له: يا بن رسول الله أريد أن أسألك عن أمر أنت أعلم به مني. فقال له: إجلس يا عثمان، فقام مغضبا ليخرج فقال: لا يخرجن أحد!. فلم يخرج منا أحد إلى أن كان بعد ساعة، فصاح (ع) بعثمان، فقام على قدميه فقال: أخبركم بما جئتم؟ قالوا: نعم يا بن رسول الله قال: جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي؟ قالوا: نعم، فإذا غلام كأنه قطع قمر أشبه الناس بأبي محمد عليه السلام فقال: "هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره، واقبلوا قوله، فهو خليفة إمامكم والامر إليه". في حديث طويل
وقد ولد الطوسي سنة 385 هـ وتوفي سنة 460، وهو ينقل الرواية عن الفزاري الذي توفي قبل ولادته، أي في بداية القرن الرابع الهجري، بدون سند، وانما يقول عنها أنها (مشهورة) ولذا من المحتمل حدوث تلاعب فيها، هذا بالإضافة الى ضعف الفزاري، الذي يقول عنه علماء الرجال الشيعة الاثنا عشرية كالنجاشي والطوسي وابن الغضائري: "انه كان ضعيفا في الحديث" و" كان يضع الحديث وضعا، ويروي عن المجاهيل" و "كذاب، متروك الحديث جملة، وكان في مذهبه ارتفاع، ويروي عن الضعفاء والمجاهيل، وكل عيوب الضعفاء مجتمعة فيه " وقال الشيخ الطوسي في (رجاله) عنه : "روى في مولد القائم عليه السلام أعاجيب".
اذن فان هذه الرواية ضعيفة جدا، وهي متأخرة كثيرا، ومناقضة للحديث المشهور المروي عن الامام علي الهادي: "انكم لا ترون شخصه" وتنتهك السرية المطلقة التي يقال أن الامام الحسن العسكري كان يفرضها على ولادة ووجود ابنه، مع ان الرواية لا تذكر أسماء الأربعين رجلا من خاصة العسكري، ما عدا ثلاثة أسماء، لم يعرف عنهم تأييد العمري في دعوى (الوكالة الخاصة) الا ما يروى عن أحمد بن هلال العبرتائي (توفي 267) ، الذي صدر اللعن فيه في أيام السفير الثاني.
وحسب رواية (أبي الأديان البصري) فان أحدا من هؤلاء (الأربعين) بما فيهم العمري، لم تكن لديه أية فكرة عن وجود ولد للامام العسكري، بعيد وفاته، ولذلك عزوا الامام جعفر الزكي وهنأوه بالامامة، واصطفوا خلفه للصلاة على جثمان العسكري.
واذا صدقنا الرواية فانها تقول بأن العسكري قد عين العمري خليفة له أو لابنه، ثم قال: " ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر" أي ان الطفل ذا الخمس سنوات لم يعط الوكالة بنفسه للعمري. وعلى أي حال فان هذه الفقرة من الرواية لم يذكرها محمد الصدر، وانما قفز عليها، لأنها تنطوي على تشكيك بأمر الوكالة.
وسوف يقبل الصدر كلما بني على هذه الرواية من وكالة ابن العمري، محمد، والوكلاء الآخرين النوبختي والصيمري. ويؤمن بموضوع (الغيبة الصغرى، والغيبة الكبرى).
10 окт 2024